حقائق مُستجدة وأهداف مُستهدفة- استراتيجية إسرائيلية قبل وقف الحرب على غزة

المؤلف: د. محسن محمد صالح11.05.2025
حقائق مُستجدة وأهداف مُستهدفة- استراتيجية إسرائيلية قبل وقف الحرب على غزة

في غمرة الأحداث المتسارعة، وقبل أن يُعلن عن توقف العمليات العسكرية على امتداد قطاع غزة، يسعى الاحتلال الإسرائيلي جاهداً لترسيخ أربعة إجراءات طارئة، بالإضافة إلى ثلاثة أهداف أخرى مُتوقعة، بهدف تغيير الواقع الميداني.

في خضم التحليلات، ربما لم يحظَ الوضع الراهن، أي ما قبل انتهاء الحرب، بالقدر الكافي من التدقيق، بالمقارنة مع النقاشات الدائرة حول مرحلة ما بعد الصراع. تلك النقاشات التي تُركز بشكل أساسي على إعادة رسم خريطة الحكم في غزة، وبحث بدائل لحماس وفصائل المقاومة.

مع وجود تداخل ملحوظ بين الترتيبات الحالية وتلك المستقبلية، يكتسب فهم تحركات الاحتلال الراهنة أهمية بالغة لإحباط أي محاولة لفرض رؤى مسبقة حول مستقبل القطاع.

أربعة أوضاع مستجدة

في ظل الإخفاق الملموس للكيان الإسرائيلي في تحقيق الأهداف الجوهرية التي أعلنها في بداية عدوانه على غزة، وبعد مرور أكثر من ستة أشهر من العمليات العسكرية الشرسة، بما في ذلك القضاء المزعوم على حماس، وتحرير الأسرى، وضمان أمن المنطقة المحيطة بغزة، ورغم استعداده الظاهري لتخفيف حدة العمليات، فإنه سيسعى إلى الحفاظ على مكاسب معينة قدر الإمكان، مستغلاً قدرته على التحمل، ومراعياً موازين القوى المتغيرة، والحسابات السياسية والعسكرية والاقتصادية المعقدة. سيسعى لاستخدام هذه العوامل كأدوات للمساومة في محاولة لفرض رؤيته لما سيكون عليه القطاع مستقبلاً.

يمكن إيجاز "الحقائق" التي يحاول الاحتلال فرضها على أرض الواقع فيما يلي:

  • أولاً: عزل المنطقة الشمالية من قطاع غزة عن المناطق الوسطى والجنوبية، وفرض سيطرته الكاملة على المداخل والمخارج، واستكمال شق طريق فاصل، وهو الطريق الذي يمتد من شرق القطاع بالقرب من معبر المنطار، وصولاً إلى شاطئ البحر بالقرب من ميناء غزة القديم، ويُعرف باسم طريق 749 أو طريق عابر غزة.
  • ثانياً: منع عودة السكان النازحين من شمال القطاع إلى منازلهم، بهدف تنفيذ مخطط التهجير، أو استخدام قضية عودتهم كورقة ضغط على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية.
  • ثالثاً: فرض سيطرته على شريط أمني بعمق كيلومتر واحد تقريباً، يمتد على طول الحدود الشمالية والشرقية للقطاع.
  • رابعاً: التعاون مع الولايات المتحدة لإنشاء رصيف بحري في ميناء غزة، بغرض التحكم في حركة استيراد البضائع وتدفق المساعدات، وكذلك الإشراف على عملية إعادة الإعمار في المستقبل. يهدف ذلك إلى الإشراف المباشر على الاحتياجات اليومية للسكان، وتقويض سلطة حماس، واستبدالها بعملاء أو وكلاء ينفذون المهام وفقًا لمعاييره الخاصة، بالإضافة إلى تسهيل تهجير الفلسطينيين عبر هذا الميناء.

هذه الإجراءات الأربعة تم تنفيذها بالفعل، أو تم تحقيق تقدم كبير في تنفيذها على أرض الواقع.

ثلاثة أوضاع مستهدَفة

في الأيام المقبلة، من المتوقع أن يسعى الاحتلال إلى استغلال الوقت المتبقي لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:

  • الأول: السيطرة الكاملة على معبر رفح الحدودي، ومحور فيلادلفيا الذي يفصل بين مصر وقطاع غزة، بهدف تشديد الحصار الخانق على القطاع من جميع الجهات.
  • الثاني: تكثيف الجهود الاستثنائية لاستهداف واغتيال قادة حماس في قطاع غزة، وتفكيك أكبر قدر ممكن من البنية العسكرية لكتائب القسام وفصائل المقاومة الأخرى.
  • الثالث: تشكيل قيادة محلية بديلة عن تلك التي تسيطر عليها حماس، تتكون من زعماء عشائر أو شخصيات موالية لسلطة رام الله، لإدارة المناطق الواقعة تحت الاحتلال وفقًا لمعاييره وأهدافه، ولتهيئة البيئة المناسبة لملء الفراغ الذي سيتركه إسقاط حماس، وفقًا لخططه لما بعد الحرب.

هذه الأهداف لا تزال بعيدة المنال، حيث تواجه حملته العسكرية على رفح صعوبات جمة واعتراضات دولية واسعة النطاق، حتى من أقرب حلفائه الغربيين، كما أن احتمالات فشلها تبدو كبيرة للغاية.

كما أن الإخفاق المستمر في الوصول إلى القيادات السياسية والعسكرية العليا لحماس طوال الأشهر الستة الماضية، لا يمنح أي أمل حقيقي في تحقيق ما يسعى إليه. أما فيما يتعلق بتشكيل قيادة بديلة، فقد بذل الاحتلال جهودًا مضنية، خاصة في شمال غزة، لكنه فشل في تحقيق أي تقدم ملموس، حيث رفض زعماء العشائر التعاون معه، حتى في الأمور الإنسانية المتعلقة بتوزيع المساعدات. كما باءت محاولات سلطة رام الله لتشكيل قوة شرطية في القطاع بالفشل الذريع.

استثمار الأوراق في المفاوضات

إذا كانت الحرب قد دخلت مرحلة "الوقت الضائع"، وأصبح من المستحيل على الاحتلال تحقيق أهدافه الأساسية المعلنة، وإذا كانت الحرب قد فقدت جدواها ومبرراتها، مع تصاعد الضغوط المتزايدة لإنهاء الصراع، وتحول الحرب إلى عبء ثقيل على الاحتلال، الذي سيضطر عاجلاً أم آجلاً إلى التراجع وإعادة تقييم حساباته، فإن العدو الإسرائيلي سيلجأ إلى تراجعات مرحلية وتكتيكية نحو إنهاء الحرب، مستغلاً "الحقائق" التي أوجدها على الأرض كورقة ضغط تفاوضية، لتحقيق الحد الأدنى الذي قد يقبله، ويتلخص ذلك في النقاط التالية:

  • أولاً: التوصل إلى صفقة تبادل أسرى مناسبة، مع الاستمرار في ربط الصفقة بتهدئة مؤقتة، وليس بإنهاء شامل للحرب، إلا أنه سيرضخ في نهاية المطاف لشروط المقاومة في وقف العدوان، طالما أنه لم يتمكن من "تحرير" أسراه.
  • ثانياً: ضمان عدم تحول قطاع غزة مستقبلاً إلى خطر أو مصدر تهديد للكيان الإسرائيلي.
  • ثالثاً: منع حماس أو فصائل المقاومة من حكم قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وتوكيل المهمة إلى سلطة فلسطينية مُعدَّلة وفقًا للمعايير الإسرائيلية، وربما يسبق ذلك مرحلة انتقالية بوجود قوات عربية أو قوات متعددة الجنسيات.

على الرغم من أن سلطة رام الله تحاول جاهدة تكييف نفسها وتجهيز أوراق اعتمادها بما يتناسب مع المعايير الإسرائيلية والأمريكية، من خلال استقالة حكومة اشتية وتشكيل حكومة محمد مصطفى، واتصالاتها الإقليمية والدولية، ومحاولة إحياء تشكيلاتها الأمنية والإدارية في القطاع، إلا أنها لا تزال تواجه طريقاً طويلاً وشاقاً، نظرًا لقوة المقاومة، واتساع قاعدتها الشعبية، مقابل ضعف شعبية السلطة وقياداتها.

إدارة التدافع بين المقاومة والاحتلال

في المقابل، فإن الأداء المتميز للمقاومة، وفاعليتها الكبيرة على أرض الواقع، واحتفاظها بمنظومة تحكم وسيطرة واسعة في قطاع غزة، بما في ذلك المناطق الشمالية، وكذلك سرعة سيطرة المنظومات المدنية التابعة للمقاومة على المناطق التي ينسحب منها الاحتلال، والمباشرة الفعالة في إدارة شؤون الناس، وثقة الجماهير بها، كل ذلك يمنح المقاومة أوراق قوة هامة في اليوم الذي يسبق إنهاء الحرب.

وبشكل عام، فإن قدرة المقاومة على الصمود والاستمرار، وأداءها العسكري القوي، سيكون العامل الأكثر أهمية في إضعاف وإفشال "الحقائق" التي يسعى الاحتلال لفرضها على الأرض. كما أن التفاف الحاضنة الشعبية حول المقاومة سيكون عاملاً حاسماً في قطع الطريق على أي تصورات يسعى العدو لفرضها على قطاع غزة.

لذلك، يجب على المقاومة أن تتمسك بمطالبها المشروعة، مع إدراكها التام بأن العدوان قد دخل في "الوقت الضائع" وأنه يعيش أسوأ أزماته، وأن التضحيات الهائلة التي قدمها القطاع يجب أن تُترجم من خلال وقف العدوان بشكل كامل، والانسحاب الإسرائيلي الشامل وغير المشروط، واحتفاظ المقاومة بسلاحها، وعودة النازحين إلى ديارهم، وفتح المعابر وتدفق كافة الاحتياجات، وإعادة الإعمار. يجب التأكيد على أن مستقبل قطاع غزة هو شأن فلسطيني داخلي بحت، يقرره أبناء الشعب الفلسطيني وقواه الحية الفاعلة على الأرض، وفقًا للثوابت والمصالح العليا للشعب الفلسطيني.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة